بيت العائلة الأبراهيميّة
كتب : بدر العبري
بيت العائلة الإبراهيميّة أو البيت الإبراهيميّ صرح شيّدته حكومة أبو ظبي بدولة الإمارات العربيّة المتحدة في جزيرة السّعديّات في العاصمة أبو ظبي، ويتكوّن من كنيس لليهود، وكنيسة للمسيحيّين، ومسجد للمسلمين، بجانب مركز تعليميّ يختصر مفاهيم وتأريخ الدّيانات الثّلاثة، ومكتبة متخصّصة بالأديان، وغالب كتبها باللّغة العربيّة، ولا زالت في بداية تكوينها، ولعلّها تكبر وتكون من أهم المكتبات المتخصّصة بالملل والأديان في الخليج والوطن العربيّ، مع مرافق أخرى كمقاهي وحدائق وأماكن للأطفال والزّوار.
ما دفعني للكتابة حول الموضوع كنتُ في لقاء تلفزيونيّ في إحدى الفضائيّات العربيّة قبل أكثر من سنة، بمشاركة بعض المتخصّصين الدّينيين في موضوع مداره فقهيّ لا علاقة له بالموضوع، وإذا بي أسمع من بعض الحضور كلمة تكوين ديانة جديدة خليطة من اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، مع تلميح لهذه الدّولة، ثمّ وجدت الكلامَ ذاته يتكرّر في وسائل التّواصل، وكنتُ حينها أتسائل: كيف تكون صورة هذه الدّيانة الجديدة؟ وهل ممكن لليهوديّ أو المسيحيّ أو المسلم أن يتنازل عن شيء من دينه اعتقادا أو طقوسا، هذا لا يمكن تحقّقه عقلا ولا واقعا، ولم تأت هذه الدّيانات الثّلاثة إليه، فلجميع الأديان والملل خصوصيّات عقائديّة، وطقوس مميّزة وحافظة لها، والحدّ المشترك مع الآخر احترامه في دينه وتدينه، وعدم إكراهه وإقصائه لاختلافه في المعتقد، وهذا ما قرّره القرآن عندما طلب أهل مكة من النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – التّنازل عن بعض دينه حيث قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
كما وجدتُ من ربط هذا سياسيّا من حيث التّطبيع مع (إسرائيل)، ومنهم اعتبر ذلك كفرا وردّة في الدّين، وتمييعا للإسلام، وأنّه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، وأنّه لا توجد أديان إبراهيميّة، فما كان إبراهيم يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما، وكأنّ الإمارات بهذا أتت كفرا شنيعا، وبدعة لم تسبق من قبل، في لغط كبير من بعض الفضائيّات وبعض الدّعاة والمغردين في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتعميم مبني على تشويه الآخر، قلّ ما يصاحبه تعقل وتثبت، أو دراسة بحثيّة موضوعيّة، وحسن ظنّ على الأقل من حيث الابتداء، والنّظر إلى الجانب الإيجابيّ من الموضوع.
وفي المقابل قرأتُ مؤخرا مقالة في صحيفة الشّرق الأوسط بعنوان “صيد ثمين من الكتب الفرنسيّة الجديدة” للمترجم السّوريّ هاشم صالح، أشار في المقالة إلى الكتاب الفرنسيّ الجديد الّذي بعنوان “عن الإسلام” للفيلسوف الفرنسيّ ريمي براغ الّذي وصفه الكاتب بأنّه “من أهم الفلاسفة الفرنسيين في وقتنا الرّاهن، إنّه عالم أكاديميّ كبير متبحر في العلم إلى أقصى حدّ ممكن، إنّه لا يلقي الكلام على عواهنه، وثانيا لأنّه فيلسوف متديّن 000 هذا شيء أصبح عملة نادرة في السّاحة الفرنسيّة، الجميع يفتخرون بأنّهم ملاحدة ليلا نهارا فقط، هذا ليس موقف ريمي براغ، إنّه فيلسوف مسيحيّ كاثوليكيّ، ويعلن ذلك على رؤوس الأشهاد”، ووصفه أيضا بأنّه “مطلّع تماما على الأديان التّوحيديّة أو الإبراهيميّة الثّلاثة، نسبة إلى إبراهيم الخليل، وهي الأديان الّتي شيَّدت لها الإمارات العربيّة المتحدة مركزا روحيّا كبيرا باسم: «بيت العائلة الإبراهيمية» … وأثبتت بذلك أنّ العرب ليسوا كلّهم ظلاميين تكفيريين، على عكس ما يشاع عنهم في الغرب والشّرق، أثبتت أنّ هناك طريقة أخرى لفهم الإسلام الحنيف غير طريقة الإخوان المسلمين، وكلّ ما نتج عنهم من حركات تطرّف وعنف وإرهاب، وكانت الإمارات بذلك مخلصة لروح القرآن الكريم وجوهره العظيم”.
فبيت العائلة الإبراهيميّة موضع إعجاب من العديد من المفكرين الغربيين والشّرقيين، والدّاعمين للتّعايش والسّلام ومحاربة التّطرّف، كما أنّه موضع سخط من بعض الجماعات الإسلاميّة والعديد من التّقليديين، صاحبه منذ إعلان الابتداء في تأسّيسه عام 2019م تشويه إعلاميّ كبير؛ لهذه قرّرت زيارته، والتّعرّف عليه عن قرب، لا عن طريق قال وقيل، لأنظر بذاتي دون توجيه مسبق من أحد.
في الجمعة الأخيرة من شهر مايو الماضي ذهبتُ مع بعض الأخوة لزيارة هذا المعلم في أبو ظبي، وكنت قد أرسلنا لهم مسبقا إيميلا للحجز، ولنا الخيار حسب جدول الزّيارت أن نختار وقتا ليكون معنا مشرف يشرح لنا، حيث الزّيارة مجانيّة، فاخترنا الثّانية عشر والثّلث ظهرا، فلمّا وصلنا استُقبلنا بترحاب كبير من قبل المشرفات الإماراتيّات، ثمّ كانت معنا المشرفة واسمها “مريم الشّامسيّة”، فخيّرنا بين الذّهاب لصلاة الجمعة في المسجد في المعلم بحيث يتأجل موعدنا إلى الثّانية عشر وأربعين دقيقة، أو نبدأ الجولة، فاخترنا الذّهاب ابتداء لصلاة الجمعة، وهنا القاعة الدّاخليّة للمسجد ممتلئة، وأغلب القاعة الخارجيّة كذلك، فصليّت في الخارج، وكانت صلاة خفيفة بلا تكلّف أو تطويل.
في الابتداء توجد لوحة كبيرة تضمّنت صورة كبيرة لوضع حجر الأساس لبيت العائلة الإبراهيميّة، والّذي كان في عام 2019م، وهذا العام أطلقت عليه الإمارات عام التّسامح، ويظهر في الصّورة رئيس الدّولة محمّد بن زايد، ومحمّد بن راشد نائب رئيس الدّولة، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وشيخ الأزهر أحمد الطّيّب، وبجانب هذه اللّوحة لوحة فيها إشارة إلى وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السّلام العالميّ والعيش معا، والّتي كانت في العام ذاته، أي في 4 فبراير 2019م، وهي وثيقة مهمّة جدّا وقّعت من قبل البابا فرنسيس وشيخ الأزهر، وختمت “لتكن هذه الوثيقة دعوة للمصالحة والتّآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكلّ الأشخاصِ ذوي الإرادة الصّالحة؛ لتكن وثيقتنا نداء لكلّ ضمير حيّ ينبذ العنف البغيض والتّطرّف الأعمى، ولكلّ محبّ لمبادئ التّسامح والإخاء الّتي تدعو لها الأديان وتشجّع عليها؛ لتكن وثيقتنا شهادة لعظمة الإيمان بالله الّذي يوحّد القلوب المتفرّقة ويسمو بالإنسان؛ لتكن رمزا للعناق بين الشّرق والغرب، والشّمال والجنوب، وبين كلّ من يؤمن بأنّ الله خلقنا لنتعارف ونتعاون ونتعايش كإخوة متحابّين”.
ثمّ توجد لوحات أخرى، وفيها صورة مصمّم المعلم السّير ديفيد أدجاي، والحاصل على وسام الأمبراطوريّة البريطانيّة في التّصميم المعماريّ، وصورة لاجتماع اللّجنة العليا للأخوّة الإنسانيّة في مكتبة نيويورك العامّة في 5 فبراير 2019م، وفيها يظهر عبد الله بن بيّة، وعبد الله بن زايد، والمصمّم، وغيرهم، وفي الأسفل مجسّد لماء يجري مكتوب في جانبيه عبارات مشتركة في الأديان الثّلاثة، كالطّهارة والوضوء، والماء رمزيّة مقدّسة في الطّقوس في هذه الأديان، فهو رمز الوضوء في اليهوديّة والإسلام، والتّعميد في المسيحيّة.
وكما أسلفنا المعلَم يتكوّن من كنيس لليهود، وكنيسة للمسيحيّين، ومسجد للمسلمين، وهذه المباني الثّلاثة مشتركة في الطّول والعرض والارتفاع والمساحة، ومبنيّة بذات المواد، إلّا أنّ كلّ مبنى يجسّد خصوصيّات الدّيانة، ويعطي صورة عامّة عنها للزّائر، فالكنيس وأطلق عليه “كنيس موسى بن ميمون” يوحي لك بالتّأريخ والطّقوس اليهوديّة، وفي داخله مكان الوضوء، وفيه التّوراة والتّلمود البابليّ، وعند حائط المحراب كلمات عشر بالعِبريّة مجسّدة للوصايا العشر في التّوراة، وفي المحراب التّوراة العبريّة بالخطّ العِبريّ، وحسب حفظي أهديت للشّيخ زايد بن سلطان (ت 2004م)، وتوجد كراسي في الكنيس، وفيه حائط يعزل الرّجال عن النّساء، كما هو ملحق به حديقة للتّجمع ولطقوس الصّمت.
وأمّا الكنيسة وأطلق عليها “كنيسة القدّيس فرنسيس” فجاءت متوافقة مع جميع الطّوائف المسيحيّة، خاليّة من الأيقونات والتّصاوير عدا الصّليب في أعلى المحراب، كما ألحق بها غرفة للتّعميد، وفي الدّاخل غرفة لسرّ الاعتراف، وإناء لسرّ القربان، وفي وسطها كراسيّ دون فصل بين الذّكور والإناث، مع توفر الكتاب المقدّس بالعهدين القديم والجديد.
وأمّا المسجد وأطلق عليه “مسجد الإمام الطّيّب” فيتضّمن المحراب وقاعة الصّلاة، ومصاحف موزعة فيه بشكل منظّم، وخصّص مكان في داخل القاعة كمصلّى منفصل للنّساء مع دورات المياه والوضوء، ويدخل الضّوء عموما إلى هذه الأماكن الثّلاثة بشكل بديع يعطي السّكينة والرّوحانيّة، وألوان المباني تعود بك إلى الماضي الموغل في القدم، مع الهدوء والسّكينة، وكما أسلفنا يوجد ملحق تعليميّ لخصوصيّات الأديان الثّلاثة ومشتركاتها، تعطي صورة ومقدّمات في التّعرّف على الآخر بروح إنسانيّة منفتحة، مع إقامة الشّعائر لأصحاب هذه الأديان، خصوصا يوم السّبت عند اليهود، والأحد عند المسيحيين، والجمعة عند المسلمين.
لهذا لم أجد هنا ديانة خليطة من هذه الأديان الثّلاثة، بقدر ما وجدت معالم تعبديّة ثلاثة تختصر لك طريق التّعرّف على الآخر، ووجود المعابد والكنائس ليست وليدة اليوم في الخليج لسبب الهجرة إلى الخليج نتيجة النّفط، بل هي موغلة في القدم، من حيث الآثار والمرويات، ومن حيث الواقع، ففي المنامة مثلا في البحرين يوجد شارع أو مجمّع الأديان، يوجد فيه مساجد للسّنة والشّيعة وحسينيات وكنيسة للمسيحيين الإنجيليين ومعبد للهندوسيّة والبوذيّة، كما يوجد كنيس لليهود قريب بوابة البحرين في المنامة، وفي روي في مسقط يوجد شارع أيضا فيه عدّة كنائس، وقريب منه معبد للهندوس ملحق به معبد للبوذيّة، وقريب منه مسجد أيضا، ويوجد تجمّع للكنائس في غلا بولاية بوشر أيضا، كما فتح بطريرك أنطاكيّة يوحنّا العاشر مؤخرا كنيسة القدّيس حارث بن كعب في غلا، وهي أول كنيسة – حسب علمي – للرّوم الأرثذوكس في عُمان، ويوجد في قطر أيضا تعدّدية لبعض الكنائس ومنها الشّرقيّة، وحسب ويكبيديا يوجد مكان تعبديّ للمورمون أيضا، كما توجد كنائس أيضا في الكويت، بجانب المعابد والكنائس في دبي وأبو ظبي لفترة قديمة، إلّا أنّ معلَم بيت العائلة الإبراهيميّة الغاية منه تحقيق معرفة الآخر والتّعايش معه في عالم منفتح على بعضه، بجانب انفتاح الخليج ذاته ومنها الإمارات خصوصا ديموغرافيّا بسبب النّفط والاستثمار والسّياحة.
وأمّا مسألة الأديان الإبراهيميّة فكتبتُ حولها سابقا، ولا مشاحة في الاصطلاح، وليس المراد النّسبة إلى إبراهيم كجانب لاهوتيّ او اعتقاديّ تقرأ حوله النّصوص الدّينيّة، وإنّما المراد الخطّ التّأريخيّ الواسع، أي هذه الأديان تشكلت في ذات الخطّ، وأصبحوا أمّة عظيمة من إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم عليه السّلام، ثمّ تجانسهم في الأمم الأخرى، واعتناقهم لهذه الدّيانات الثّلاثة.
وأمّا البعد السّياسيّ فلا ظهور له في المعلَم، ثمّ التّعقل يقودنا إلى الجانب الإيجابيّ حتّى لو وجد سيبقى ظرفيّا، حيث العالم اليوم يعيش صراعات منها صراعات الماضي باسم الإله، وباسم المقدّس، فجميل أن نجد في وطننا الخليجيّ والعربيّ ما يساهم في خلق عالم إنسانيّ متعايش، وقد حاول بعضهم تشويه هذا الإسلام، وتشويه العرب والمسلمين، فلا ينبغي أن نكون أمّة ضعف، وقوّة ديننا بانفتاحه على الآخر، فلا يخاف من العيش مع الآخر، والاشتراك معه في بناء الإنسان، وإصلاح الأرض وعمارتها.
ومن القائل
ومن يبتغي غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين