غير مصنف

من إعمار الأرض .. الى إعمار السماء

 

من إعمار الأرض.. إلى إعمار السماء 

لطالما أبدع الإنسان في إعمار كوكب الأرض منذ العصور القديمة، بأنماطٍ شتّى تُظهر جلية في إختلاف طرق تصميمها وزخرفتها، كان فن العمارة موجودًا منذ الأزل كما ما نراه من الأنماط الفرعونية،  والرومانية، الأندلسية، الاغريقية، والعثمانية والفكتورية وغير ذلك الكثير.

فإن هذا التعدد يعزى إلى اختلاف الأذواق والمعاني التي يحملها كلّ نمط ليفشي بها للناظر.

ولم يكتفي الانسان بكوكب الأرض فقط فلطالما وضع الإنسان نصب عينيه غزو الفضاء معلنًا عصرًا جديدًا من الحضارة البشرية في منتصف القرن العشرين، لتتسع رقعة الاستعمار شاملة العوالم الخارجية بعيدا عن كوكبه الأم. ومع بداية رحلة استكشاف طبيعةَ ما توارى وراء الغلاف الجوي، بدا الفضاء بيئة مغايرة تماما لما عهده الإنسان منذ نشأته، وعليه فقد بدأت تحديات جمّة تتضح وسط محاولات مستمرّة للشروع بهجرة الإنسان الكبرى.

لكن المكان هناك في الأعلى على خلاف ما هو على الأرض، فالعمارة في الفضاء تكون محكومة ضمن جملة من الشروط ومعايير السلامة التي لا يمكن الاستهانة بها أو الخروج عنها، مع حاجة ماسة للابتكار العملي القادر على تحقيق عدّة متطلبات مثل الحماية الكافية وسهولة التنصيب والتركيب ووفرة مواد البناء، مع محدودية الجانب الجمالي الذي يلعب دورا هامشيا في هذا الصدد.

 بدأت معالم عمارة الفضاء بالظهور مع بزوغ نجم أعمال الخيال العلمي في نهاية القرن التاسع عشر على أيدي بعض الكتّاب عالميين مثل الفرنسي “جول فيرن” وعالم الصواريخ الروسي “كونستانتين تسيولكوفسكي”. وتُناط مهام الهندسة المعمارية الفضائية بعمل مهندسي الفضاء، لكن في ذات الحين يؤخذ بعين الاعتبار تخصصات أخرى جوهرية، مثل علم وظائف الأعضاء وعلم النفس وعلم الاجتماع، وذلك لضمان سلامة رواد الفضاء على جميع الأصعدة.

كما تُعنى هندسة العمارة الفضائية بدراسة وتصميم كافة الأجسام المتوقعة خارج الغلاف الجوي، من مراكب ومحطات فضائية، ومرورا بوحدات سكنية على أسطح الأجرام السماوية.

 تلك التصاميم تأخذ بعين الاعتبار كافة العوامل المحيطة في البيئة الفضائية، وأي خطأ مهما بدا بسيطاً، فإنّ تبعاته لن تكون محمودة البتّة، لأن بيئة الفضاء لا ترحم، وذلك أجزل وصف يمكن الاستعانة به لوصف طبيعة الفضاء.

وللوصول إلى أفضل التصاميم الهندسية فإنّ على معماري الفضاء دراسة التحديات البيئية لاستيفاء شروط المعيشة السليمة، وتندرج تلك التحديات ضمن قائمة طويلة سنذكر بعضها في هذا المقال

درجات الحرارة

إذا ما نظرنا إلى محطة الفضاء الدولية التي تتخذ مدارا حول الأرض مقرّا لها، فإنّا نجد بأنّ تقلبات درجات الحرارة بين جنبيها يعد شاسعا، فالجانب المُضاء بأشعة الشمس تصل أقصى درجاته 121 درجة مئوية والجانب الآخر المعتم تصل درجة حرارته 250 درجة مئوية تحت الصفر. وهذا كفيل بأنّ يتسبب بتمزيق وتحطيم هيكل المركبة الفضائية بفعل التمدد والانكماش إذا ما استخدمت مواد غير مناسبة.

فمحطة الفضاء الدولية صُنِعت بمواد التيتانيوم الخفيف وألياف الكيفلار والفولاذ عالي الجودة، لمقاومة تغير درجة الحرارة، ولتمنحها الصلابة الكافية لمقاومة الثقوب التي قد تتسبب بها الأجسام الفضائية الدقيقة السابحة بسرعة قد تصل إلى 27 ألف كيلومتر في الساعة.

هذا فيما يخص الحفاظ على درجات الحرارة على مستوى الهيكل الخارجي، أما من الداخل فينبغي على المهندسين أن يصنعوا أجواء تحاكي تلك الموجودة على سطح الأرض بدرجة حرارة مستقرة، وهذا يعد تحديا آخر، لأنّ ثمة عوامل عدة تساهم في رفع درجة الحرارة، مثل التوليد الحراري البيولوجي في أجسام رواد الفضاء، وكذلك الحرارة الناتجة من عمل الأجهزة الكهربائية وبقية الأنظمة.

لذا تعتمد محطة الفضاء الدولية “نظام التحكم الحراري” (Thermal Control System) باستخدام شبكة من الأنابيب والحلقات المغلقة داخل المحطة، يُضخ عبرها سائلٌ يعمل على تجميع الحرارة ونقلها، ثمّ التخلص منها وفق آلية معينة.

تربة القمر

من التهديدات الأخرى التي تهدد سلامة الإنسان والإلكترونيات، وجود الجسيمات المشحونة الفتاكة التي تنبعث من الشمس بواسطة الرياح الشمسية، وكذلك الأشعة الكونية القادمة من غياهب الفلك من جميع الاتجاهات. لذا يُعد تصفيح المركبة الفضائية من الخارج أمرا في غاية الضرورة، كما هو الحال مع محطة الفضاء الدولية، على الرغم من أنّها تحوم حول الأرض في نطاق غلافها المغناطيسي الذي يشكّل لها درعا إضافيا.

أما على سطح القمر، فتنظر بعض الدراسات المبتكرة في إمكانية استخدام تربة القمر، لبناء وحماية الهيكل الخارجي للوحدات السكنية أو البحثية، لما توفره التربة من درع طبيعي ضد الجسيمات المشحونة والأشعة الضارة، وكثيرٌ من المشاريع اليوم تتناول هذا النمط البنائي باعتباره أحد الحلول المطروحة، لا سيما مع ظهور تقنية الطباعة الثلاثية الآلية

كما يلعب اختلاف الضغط دورا جوهريا في تصميم محطات الفضاء، نظرا إلى أنّ الضغط خارج المحطة أو الوحدة الفضائية يكون أقل أو يكاد يكون معدوما، في حين يكون الضغط الهوائي في الداخل موافقا لما هو عليه على مستوى سطح البحر؛ أي ما يعادل بارا واحدا، أو ضغطا جويا واحدا. (البار: وحدة لقياس الضغط).

ويسبب هذا الاختلاف نشوء قوّة طاردة من داخل المحطة إلى الخارج فيكون هيكل البناء في حالة من عدم الاستقرار الدائم، وعليه فإنّ على المصممين تفادي بناء الحواف الحادة في البناء، منعا من تركيز قوّة عليها فتتعرض للانهيار، لذا تأخذ جميع التصاميم الهندسية شكلا أسطوانيا أو حلقيا، لتوزيع القوّة على طول الجدار الداخلي.

مساكن الفضاء

كما أسلفنا في الحديث، فإنّ معماريي الفضاء معنيّون ببناء المحطات والوحدات السكنية على أسطح الأجرام السماوية كالقمر والمريخ، والمراكب الفضائية المدارية المعلّقة في الفراغ، وفي كلتا الحالتين فإنّ أثر الجاذبية يتقلّص بشكل كبير على هذه الأسطح أو ينعدم تماما، بسبب السرعة المدارية التي تلغي قوة الجاذبية (أو تتفوّق عليها)، ويقال في المصطلح الفيزيائي إن الجسم ساقط سقوطا حرا مستمرا، لذلك يفقد وزنه.

وليس الحال كما هو عندما يقلّ تأثير قوة الجاذبية، فإن الأجسام تتحرر، مما يعني أن الأمور باتت أسهل وأبسط، لكن في الواقع تزداد الأمور تعقيدا فالنقل الحراري (Heat Convection) وحركة الهواء غير المنضبطة يتسببان بكثير من التحديات، مثل صعوبة تصريف غاز ثاني أوكسيد الكربون والنيتروجين وغازات أخرى، فعندما تتجمّع عند بؤر أو نقاط معيّنة، فإنها قد تؤدي إلى أضرار حقيقية، وتهدد سلامة رواد الفضاء.

كما أنّ حركة الرواد داخل المحطة -نظرا لانعدام الجاذبية- تبدو أكثر انسيابية، وأيّ حركة غير محسوبة قد تدفع برائد الفضاء إلى الارتطام الشديد بشيء ما، لذا يسعى المهندسون إلى تحقيق التصميم الداخلي الأمثل تفاديا لوقوع أي اصطدامات غير متوقعة.

بناء الفضاء وتكلفته العالية

بعد أن استعرضنا أهم العوامل البيئية التي تؤثر بشكل مباشر على المجسمات والأبنية، حان وقت الحديث عن الطرق المثلى والمبتكرة لآلية البناء، فثمّة عدد من الأنماط التي أثبت بعضها نجاعتها وكفاءتها، كأسلوب البناء المتقطع المتبع في محطة الفضاء الدولية التي بدأت في أوّل عهدها بقطعة يتيمة عائمة في الفضاء، ثمّ تبعتها قطعة أخرى وهكذا، كما أرسل معظم القطع والوحدات بواسطة مكوك الفضاء (Space Shuttle) من الأرض، على أن تُركّب بواسطة روبوتات أو روّاد فضاء بشكل يدوي.

فمن الوحدة الأولى “زاريا الروسية” التي تمثل البذرة، بدأت عملية بناء الوحدات الأخرى مختلفة الوظائف، لتبدو محطة الفضاء الدولية على هيئتها اليوم، إذ تشمل وحدات المعيشة والمختبرات، بالإضافة إلى دعامات خارجية تعمل على تدعيم هيكل المحطة، وكذلك ألواح شمسية توفر الطاقة اللازمة.3

 

وعلى سطح القمر، كانت هناك عدة مخططات من قبل الجانبين الأمريكي والسوفياتي لبناء مستوطنات ومنصّات إطلاق صواريخ، ابتداء بمشروع “أبولو لاستيطان القمر” الذي كان ضمن أهداف مشروع “أبولو” الرئيسي لإرسال أوّل بشري إلى جار الأرض.

إذ تشير الأوراق المسربة إلى أن الحكومة الأمريكية كانت تخطط لإرسال وحدة سكنية لإقامة شخصين ثلاثة أشهر خارج قواعد الأرض، على أن تزود المحطة بوحدات سكنية أخرى تتسع لـ6 أشخاص آخرين، فتُركّب بواسطة منافذ (Hatch) مصممة مسبقا، لكي تربط بين الحُجر. لكن بعد تقييم تكلفة المشروع الذي يتطلب إطلاق صاروخ “ساتورن 5” عدّة مرات، رأى الكونغرس صعوبة تحمّل مبالغ طائلة كتلك.

كما كانت موسكو على أهبة الاستعداد لإرسال أوّل مستعمرة بشرية ضمن مشروع “زيركا” برعاية المهندس السوفياتي “فولوديمير بارمين” الذي رأى إمكانية بناء منشأة مزدوجة تضم وحدات سكنية وخدمية ووحدات لتوليد الطاقة، تنطلق منها شبكة مواصلات تحت السطح أشبه بالقطارات الحديثة.

وقد احتوى المشروع في التخطيط الأولي على تسع أسطوانات مركبة ببعضها ومصممة لإيواء 12 رائد فضاء. لكن تقديرات التلكفة التي فاقت 50 مليار روبل لم تسمح لاقتصاد الاتحاد السوفياتي بتحمّل النفقة، فقد كان الاتحاد ملتزما بالتجهيزات العسكرية أكثر حينذاك.

إنّ التسارع المثير الذي حلّ على الإنسان منذ منتصف القرن الماضي جعله في مواجهة لفكرة غزو الفضاء، وفي ظلّ التحديات التي تهدد استقرار المستعمرات البشرية في الفضاء، لا تبدو مهام مهندسي ومعماريي الفضاء في غاية السهولة، فتلك التحديات شائكة ينفرد كلّ تحد منها على حدة، ويجمع بينها جميعا أمرٌ واحد، وهو قسوة بيئة الفضاء التي يطمح الإنسان إلى قهرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى