الآخر المختلف دينيّا ….. من التّوجس إلى التّعايش
بينما من الطّبيعيّ بمكان أن تجد هذا الاستهجان مع المسيحيين في الخليج ومنها عُمان، مع أنّ الوجود المسيحيّ خصوصا النّساطرة مع قدمهم في المنطقة، إلا أنّهم شبه اختفوا إمّا بالدّخول في الإسلام، أو بالهجرة، ولم تعد كنائسهم وأديرتهم تصدح فيها الأجراس، ولم يعد لهم وجود إلا في القرون المتأخرة بعد الاستعمار البرتغاليّ، وبعد الحملات التّبشيريّة أبان الاستعمار الإنجليزيّ، واليوم وجودهم بسبب العمل خصوصا، فكانت لهم بعض الكنائس في دول الخليج بمختلف أطيافهم.
بيد أنّ الوجود الهندوسيّ بحكم الانفتاح البحريّ في الخليج وعمان خصوصا مع الهند بجغرافيّتها القديمة الواسعة كان لهم وجود في الخليج ليس تجاريّا فحسب؛ بل لهم معابدهم ومساكنهم ومحارق موتاهم منذ القدم، وتعايشوا مع أهل المنطقة بشكل كبير، ولم يسجل التّأريخ صراعا بينهم، وكان اسمهم “البانيان” حاضرا بقوّة مثلا في الفقه الإباضيّ العمانيّ، وفي العقل الجمعيّ والتّجاريّ والبحريّ، وممّا يذكر عن ابن عبيدان [ت بعد 1104هـ] وهو قاضي الإمام سلطان بن سيف اليعربي [ت1680م] أفتى في البانيان في صحار – أي الهندوس – بأنّهم يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب قياسا على المجوس الّذين سنّ بهم سلمان الفارسيّ [ت 33هـ] سنّة أهل الكتاب.
الشّاهد من هذا أنّ استهجان أهل الخليج من الهندوس أخف حدّة من استهجانهم من المسيحيين، عكس مصر وبلاد الشّام، وذلك بسبب الخلطة في التّجارة والبحر والمعيشة، وهذه طبيعة الإنسان، حيث يستهجن ما يخالفه ولم يعتد عليه ويختلط معه، فإذا اختلط ضعف التّوجس، وارتفعت النّفرة.
واليوم أصبح العالم يعيش في قرية واحدة، والمخفيّ أصبح ظاهرا، والتّراث مكشوف للجميع بحسناته وسيآته، والخلطة لم تعد محصورة لفئة من السّاسة والبرجوازيين، بل أصبحت واقعا بين الجميع، إمّا لدراسة أو سفر أو سياحة، أو حتّى لاستقرار لعمل، أو اطمئنان في مكان يستقر فيه ويأخذ جنسيّته، فضلا عن الخلطة الافتراضيّة بسبب الأفلام والرّوايات والكتب، واليوم أيضا زادت الخلطة بسبب وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فقلّ ما يوجد إنسان ليس لديه أصدقاء يختلفون عنه دينها ومذهبا وتوجها.
كما أنّ الدّول القطريّة اليوم انفتحت على بعضها، وانصهرت في عالم واحد، لها هويّتها وخصوصيّتها المنفتحة على الهويّات والخصوصيّات الأخرى، ولا يمكن العيش بمعزل عن الآخر، أو البحث عن كوكب منعزل عن المختلف، فالخلطة اليوم واقع معاش، وتحقّقه إيجابا به تستقر هذه الدّول، وبه تتقوى اقتصاديّا واستثماريّا وسياحيّا، وهذا يتطلب أن يتعرّف الجميع على الآخر من الآخر ذاته، ومنه التّعرّف حول تنوع الأديان، فجميعها على تنوعها في سفينة إنسانيّة واحدة، والأديان غُرف في هذه السّفينة ذات القبطان الواحد أي الإنسان، غايتها النّجاة من أمواج البحر المتلاطمة، إن أضرّتْ أضرتِ الجميع، بلا تفريق بين أحد، وإن تُجنبت نجا الكل، وهذا لا يتحقق إلا بالتّعارف والتّكامل المنطلق من المشترك، والمشترك أكثر من المختلف، ولكن البشر يتشبثون بالمختلف على قلّته ووهنه، ويتصارعون حوله.
وعدم الخلطة بين الأديان، والتّعرّف على الآخر المختلف؛ أدّى إلى الصّراع بين البشر، لأسباب سياسيّة أو عرقيّة أو دينيّة، ولمصالح يمينيّة ويساريّة، أضرت بالمجتمع الإنسانيّ، الّذي ارتفعت في جغرافيّته معدلات التّشريد والفقر والمسكنة، وأصاب الجميع ضرر ذلك، فلا يكاد يخلو من ضرره أمّة، ولا أتباع ملّة، لهذا نحن بحاجة اليوم أن نتجاوز هذه المرحلة، فالوحدة في التّنوع، والثّراء والتّكامل يكمن من خلال هذا التّنوع.
والخلطة بين الأديان لا تعني ذوبان الهويّات في هويّة واحدة، فهذا تحقّقه محال؛ لأنّ طبيعة الإنسان الاختلاف والتّعدد، والحفاظ على هذا الاختلاف بما يحفظ الإنسان، ويساهم في نمائه ورقيّة، وهي الغاية من الأديان، فتجتمع على القيم الرّاميّة إلى رقيّ المجتمع الإنسانيّ، كالمساواة والعدل، ومحاربة الفقر والظّلم، مع الحفاظ على خصوصيّات الأديان وهويّاتها الانتمائيّة.
وكما أنّ الخلطة لا تعني الذّوبان في الآخر؛ هي أيضا لا تعني الانعزال عن الآخر، حيث أصبحنا اليوم نعيش حضارةً إنسانيّة واحدة، تداخلت فيها الثّقافات المتنوعة، وتقاربت حولها الهويّات المتباينة، فلم يعد ذلك العالم المغلق على نفسه واضحا، حيث أصبحنا نعيش في قرية واحدة، بتنوّع ثقافاتنا وأدياننا ومذاهبنا وتوجهاتنا، والإنسانيّة اليوم اندمجت في مصالحها، وأيّ ضرر – كما أسلفت – في جزء منها يعمّ الجميع؛ فهذه الحرب الأوكرانيّة أضرت العالم أجمع، وأثرت في الجميع سلبا.
فينبغي أن نتجاوز حالة التّوجس المبالغ فيها، والانعزاليّة السّلبيّة الّتي تضر بالعقل الجمعيّ، فيسقط ضرره على تطوّر أيّ دولة قطريّة، ونحن في الخليج ومنها عُمان نعيش مرحلةَ التّفكير لما بعد النّفط، وتجاوز الاعتماد على مصدر واحد له ضرره مستقبلا سيّاسيّا وأمنيّا واقتصاديّا واجتماعيّا، حيث التّفكير اليوم في الخليج في سبل تنوّع مصادر الدّخل، والاعتماد على الطّاقة البشريّة، واستثمارها إيجابا في تحقّق نمو اقتصادي واستثماري بالمنطقة، يحقّق للأجيال الحالية والقادمة استقرارا اجتماعيّا واقتصاديّا، وهذا يترتب عليه شيء من الانفتاح على الآخر، ومنه الآخر المختلف، وبالتّالي إذا اعتاد العقل الجمعيّ على الانزواء والمبالغة في التّوجس من الآخر؛ فالمنطقة ستعيش مستقبلا في حالة من التّأخر والانغلاق والانكماش على الذّات بالشّكل السّلبيّ المؤثر على الأبعاد الحياتيّة الأخرى بتنوعها.
لهذا ينبغي صياغة خطاب إنسانيّ منفتح بشكل كبير على الآخر، حتّى يعتاد عليه العقل الجمعيّ، ولا يتوقف عند الإرادة السّياسيّة فحسب من خلال إرادة بعض الشّخوص، كما أنّه لا يتوقف عند الاجتهادات الشّخصيّة، بقدر ما يكون إرادة جمعيّة سياسيّا واجتماعيّا ومؤسّساتيّا، تدفع بالعقل الجمعيّ إلى صياغته بظرفيّة الواقع، وضرورة بنائه إيجابا بلباس العصر الّذي نعيشه اليوم عقلا وحضورا، ليسقط أثره الإيجابيّ على المنطقة ككل، ويساهم في رقيّ المجتمع الإنسانيّ من خلال مساهمته في رقيّ انتمائه إلى دولته القطريّة، وإحيائها معرفيّا واقتصاديّا واستثمارا وتطوّرا إنسانيّا في جميع الجوانب، ومنه تحققّ التّعارف مع المختلف والتّعايش معه، والتّعاون في المشترك الّذي يحدث تقدّما في المجتمع الإنسانيّ الكبير، مع عمارة الأرض وإصلاحها.
من مقالة: أذان في الكنيسة للكاتب في جريدة عُمان.