“روح مسقط”
أَعبر هذا الطريق، عائدةً إلى البيت،كل أسبوع أو أسبوعين في نفس الوقت تقريبا. في حدودالخامسة عصراً من يوم الخميس على مشارف الباطنة، تقف مئات السيارات على أحد دوارات “خط الباطنة”. أفواجٌ من الناس تلفظهم مسقط في نهاية الأسبوع عائدون إلى بلداتهم وقراهم ، كلهم متجهون في اتجاه واحد، يبدو المشهد كأحد مشاهد الأفلام السينمائية عندما تحل كارثة ما أو غزو فضائي على كوكبنا فيهرع الجميع هاربين خارج البلاد. لكن لا وضع كارثي هنا ولا شيء مثير حتى، فقط يوم رتيب وطويل وطقسٌ أسبوعي يعرفه الجميع تقريبا، رتيبٌ للبعض ومثير للغضب والازعاج للبعض الآخر. في أحد هذه السيارات أو في عدد منها ستجد حتماً أحدَ الحانقين على زحمة الطريق يلقي محاضرة عن التنمية في البلاد مُنتقدا الطرق والخدمات وكل مايطاله تفكيره في تلك اللحظة مُدعّماً خطابه الغاضب بنماذج مثالية ومقارنات بالدول الأجنبية التي ربما لم يزرها في حياته. على عكس صاحب الخُطَب الغاضبة، يستمتع بعض الشباب في سيارة أخرى بأغانٍ ساحلية صاخبة تليق بالعائدين إلى الباطنة أو تُضفي فرحاً على مشهد الهجرة الأسبوعية هذا. الذي لا يعلمه هولاء الشباب أن جميع من في السيارات المجاورة لم ينزعج فقط بل يعلم أنهم يحاولون لفت انتباه الطالبات في أحد باصات الكليات أو الجامعات، الأمر الذي لم تُعره الفتيات اهتماماً لغرقهن في التعب والنوم. بجانبي تتابع إحدى البنات مسلسلاً تركياً لتمضية الوقت، بينما تنشغل مجموعةٌ في مقدمة الباص بأحاديث تبدو مشوقة، أخريات نائمات أو يحدقن من النافذة في شرود أو نعاس، يبدو أن كلاًّ يحمل معه همومه وكلٌّ يمضي رحلة العودة بطريقته . لازلت على نفس الصفحة من الكتاب منذ انطلقنا، وأنا أعبر الطريق تعبرني ألف مرة حالات من التفكير المتأرجح والمشاعر المتقلبة ، حالات من السكون والانعزال التام أو الانزعاج المباغت بلا سبب محدد، أتأرجح بين أفكار عميقة وأخرى سطحية، تصبح العودة حالةً غير مريحة من التحول،كلما اقتربنا من “البلاد” أخلع هموماً وأنتحل هموماً أخرى. أحاول تجاهل نفسي وأفكاري و ألجأ بنظري أخيراً لألوان الغروب الدافئة ونحن نسابق صوراً متحركة للأشجار والمنازل والمزارع على جانب الطريق وهي تجري مسرعةً للخلف.
نقطع الطريق في بضع ساعات ويقطع من أعمارنا وأحلامنا أضعافا.
هذا الطريق رحلةٌ انتقالية من العاصمة الكبيرة المليئة بالأحلام والحالمين والهاربين، إلى قُرانا الصغيرة وأمنياتنا المتواضعة، خط العبور بين عالمين متناقضين.
“خط البلد” ، هل تعلم هذه الروح الأسفلتية القاسية كم تشبه مسقط في ازدحامها، وصمودها ولامبالاتها بتغيرالزمن والعابرين.. أم أنها امتداد لروح مسقط في كل اتجاه أيّاً كانت “البلد”.
I as well believe thus, perfectly composed post! .