
من بلاد الثقافة والأدب إلى عاصمة الكبتاجون
منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، وما تلاها من أحداث، خسرت سوريا الكثير من مواردها الاقتصادية، بما في ذلك النفط، الذي كان يمثل أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي السوري، وفقًا للخبير الاقتصادي أسامة قاضي. بحثًا عن مورد بديل، أشار قاضي، في حديثه لوسائل الإعلام، إلى أن “عاصمة الأمويين أصبحت الآن عاصمة الكبتاغون”، ووصف سوريا بأنها أصبحت “مركزًا رئيسيًا لصناعة المخدرات”.
وحققت شبكات الكبتاغون حول العالم أرباحًا هائلة، حيث قدرت الحكومة البريطانية مبيعاتها بحوالي 57 مليار دولار، وكانت سوريا واحدة من المراكز الرئيسية لتلك الصناعة.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد حجم الأموال التي يحصل عليها النظام السوري من هذه الصناعة، فإن دراسة لمعهد نيولاينز للدراسات في واشنطن أشارت إلى أن قيمة ضبطيات الكبتاغون بلغت حوالي 5.7 مليار دولار، ولكن الباحثين يشيرن إلى أن هذا الرقم لا يعكس الصورة بشكل كامل، مشيرين إلى أن هناك العديد من شحنات الكبتاغون تمر دون اكتشافها عبر الموانئ والطرق البرية.
في يوليو 2020، صادرت السلطات الإيطالية في ميناء ساليرنو، بمقاطعة نابولي، ثاني أكبر شحنة كبتاغون مضبوطة في التاريخ، تقدر بحوالي 14 طنًا أو ما يعادل 84 مليون قرص بقيمة تتجاوز المليار يورو. ووفقًا لبيان وكالة الجمارك الإيطالية، فقد تم إرسال تلك المضبوطات من قبل شركة سورية، وأنتجها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لتمويل الإرهاب.
وعلى الرغم من الرواية الرسمية التي أعلنتها السلطات، إلا أن تشارلز ليستر، الباحث المختص في الشأن السوري بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، عبر عن شكوكه في قدرة تنظيم “داعش” على إنتاج كميات هائلة من حبوب الكبتاغون، مما أثار عدة أسئلة حول الجهة المستفيدة الحقيقية من هذه الصناعة، وما إذا كانت إيطاليا وجهة نهائية لهذه الشحنات أم مجرد محطة عبور نحو دولة ثالثة.
في فبراير 2023، اتهمت شرطة الأموال الإيطالية رجل الأعمال السوري طاهر الكيالي بالمسؤولية عن تهريب 14 طنًا من الكبتاغون إلى ميناء ساليرنو.
وكشفت مؤسسة “مشروع الصحافة الاستقصائية” في إيطاليا، بقيادة سيسيليا أنيسي، تورط رجل الأعمال السوري طاهر الكيالي في تهريب شحنة مخدرات ضبطت قبالة سواحل اليونان عام 2018.
وبعد عام من تأسيس “الكيالي” لشركته، تم إيقاف سفينة تحمل اسم “نوكا”، ترفع علم سوريا، في سواحل اليونان، والتي كانت تحمل كمية كبيرة من الحشيش والكبتاغون قيمتها 100 مليون دولار.
ووفقًا لوثائق محكمة استئناف بنغازي، كانت هناك شبكة تحت سيطرة سورية وليبية، بقيادة شخص سوري يُدعى محمود الدّج، على هذه العمليات، حيث كان يدير شركة تعمل بالتهريب المخدرات وتشمل فك الحاويات واستخراج المواد المخدرة من داخلها، وفقًا لاعترافات أحد المتهمين السوريين الذين تم القبض عليهم.
تعكس هذه القضية والتحقيقات المتعلقة بها حجم تفشي صناعة المخدرات في سوريا، وتورط عدد كبير من رجال الأعمال والمجرمين في تهريبها عبر الحدود الدولية. يظهر ذلك التحدي الكبير الذي تواجهه السلطات الدولية في مكافحة تجارة المخدرات وضبطها، وضرورة تكثيف التعاون الدولي لمواجهة هذه الظاهرة والحد من انتشارها.
لسنوات طويلة، استمر نظام دمشق في نفي علاقته بشبكات المخدرات، مدعيًا بحسب بيان رئاسة مجلس الوزراء أن “سوريا تعتبر دولة عبور للمواد المخدرة”.
لكن عندما التقت خيوط شبكة الكبتاغون المعقدة، عند رجل الأعمال السوري، طاهر الكيالي، وبدأت تدفقات المخدرات المضبوطة من اللاذقية، كشفت ذلك عن علاقة بين ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري وشقيق الرئيس، بحسب سيسيليا أنيسي، مؤسسة مشروع الصحافة الاستقصائية في إيطاليا، ومنذ سنوات ما قبل الحرب عام 2011، تمتلك مقومات تصنيع العقاقير، ساعدتها على إنتاج 90 بالمئة من احتياجاتها الدوائية.
لا يعرف بدقة عدد معامل الكبتاغون الصغيرة في سوريا، لكن تقارير استقصائية تشير إلى وجود ما لا يقل عن 15 مصنعًا كبيرًا لإنتاج الكبتاغون بجانب عقاقير مخدرة أخرى، وفق مركز COAR للأبحاث في قبرص.
تتركز مواقع الإنتاج الرئيسية في محافظة حمص وفي بلدة البصة، وهي منطقة نائية بمحافظة اللاذقية، ومصنع آخر تديره الفرقة الرابعة.
من هذه المصانع، تنتج “مادة الأمفيتامين”، وبعدها تبدأ رحلة الكبتاغون نحو أسواق بيعه في دول الخليج، وأبرزها المملكة العربية السعودية، التي ضبطت فيها أكبر كمية من المخدر المحظور، بحسب تقرير المخدرات العالمي 2022.
وفي نهاية عام 2022، انتقلت أصداء تجارة الكبتاغون العابرة للحدود إلى الكونغرس الأميركي، حيث صاغ المشرعون قانوناً يقضي بتفكيك شبكات المخدرات السورية، المعروف بـ”قانون الكبتاغون”.
ورغم العقوبات الأميركية، البريطانية، والأوروبية، ووفقاً لبحثنا وما توصلنا إليه من أدلة، تحرك أفراد هذه الشبكة للالتفاف على العقوبات حتى قبل المصادقة على قانون الكبتاغون وإصدار القوائم.
وبينما تلتف شبكات صناعة وتصدير الكبتاغون للهروب من العقوبات، واستئناف نشاطها تحت أسماء شركات جديدة، سعت سوريا إلى تحقيق مكاسب من نوع آخر، وهي العودة إلى عضوية جامعة الدول العربية، المجمدة منذ عام 2011.